خطبة بعنوان: “خصائص وفضائل مصر في ضوء القرآن والسنة”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 11 صفر 1438هـ – 11 نوفمبر 2016م
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: منزلة ومكانة مصر
العنصر الثاني: مصر في القرآن والسنة
العنصر الثالث: مصر بلد الأمن والأمان
العنصر الرابع: واجبنا نحو مصر
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: منزلة ومكانة مصر
عباد الله: تعالوا بنا لنقف مع حضراتكم حول مكانة ومنزلة مصر؟ وقد يقول قائل؟ لماذا الحديث عن مصر؟ وهل مصر أرض حرم حتى نتكلم عن خصائصها وفضائلها؟ وهل مصر لها قداسة ومكانة خاصة عند الله كأرض الحرمين الشريفين؟!! وهل تتكلم عن مصر وجمالها في ظل هذه الظروف الراهنة وتلك المرحلة الحرجة؟!! كل هذه الأسئلة وغيرها كثير تدور في خلدكم جميعاً !!
الكثير منكم يتعجب حينما نتكلم عن خصائص وفضائل مصر في ضوء القرآن والسنة؛ إنني حينما طالعت المؤلفات والكتب المؤرخة عن مصر وخصائصها وفضائها وجدتها عشرات المؤلفات؛ وهذا يدل على عظم ومكانة هذا البلد العظيم؛ الذي أوصانا به المولى سبحانه وتعالى؛ وأوصانا به نبيه صلى الله عليه وسلم.
أحبتي في الله: ما أجمل أن يكونَ الكلامُ عن الوطن، وأجمل منه أن يكون الكلام عن وطن يحبه الله ورسوله، فالحديثُ ذو شجون؛ لأننا نتحدث عن أعظم وطن، وأعرق حضارة، الحديث عن أم الدنيا، أرض الكنانة، عن بلدٍ لم ولن تعرف الدنيا مثلها، إنها مصرُ الغالية..هي العنوان..وأحلى الأوطان. في مصر تعانقت القلوب، وتصافح المُحِب والمحبوب، والتقى يوسفُ بيعقوب.
يا أهلَ مصر: لقد وجد الإسلام فيكم أعياده، وكنتم يوم الفتوح أجناده، وكنتم مدده عام الرمادة، وأحرقتم العدوان الثلاثي وأسياده، وحطمتم خط بارليف وعتاده، وكنتم يوم العبور آساده وقواده .
وإني لأفخر وأعتز إذ أتحدث عن مصر، لكن يجب أن نضع في حسابنا أنه مهما تكلم المتكلمون، وسطر المسطرون، وألف المؤلفون، ونظم الشعراء، فلن يوفوا مصر حقها، فأي ثناء وأي مدح يأتي بعد القرآن والسنة؟!! لكنها محاولة نيل الشرف في الحديث عن مصر، أسأل الله أن يجعلها خفيفة حبيبة لكل من يقرأها أو يطالعها.
مِصرُ الكنانةُ ما هانتْ على أحدٍ………………الله يحرُسُها عطفاً ويرعَاها
ندعوك يا رب أن تحمي مرابعها…………….فالشمس عين لها والليل نجوَاها
أيها المسلمون: لقد ذكر المؤرخون القدامى خصائص وفضائل ومكانة مصر من جوانب عديدة؛ سواء من ناحية أرضها أو نيلها أو أزهرها أو طعامها أو شرابها أو عسلها أو الأنبياء الذين مروا على ترابها؛ أو الصحابة والتابعين والزهاد والعباد والعلماء الذين مروا بها أو تربوا على أرضها ……إلخ
فأما من كان بها من الأنبياء عليهم السلام، فإبراهيم الخليل، وإسماعيل ويعقوب، ويوسف. واثنا عشر نبياً من ولد يعقوب وهم الأسباط وموسى وهارون ويوشع بن نون، وعيسى بن مريم، ودانيال، عليهم الصلاة والسلام. فهذا ما ذكر: من كان بها من الأنبياء قبل الإسلام.
وأما من كان بها من الصحابة؛ فقد ذكر أهل العلم والمعرفة والرواية أنه دخل مصر في فتحها ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل ونيف. وقال يزيد بن أبي حبيب: وقف على إقامة قبلة المسجد الجامع ثمانون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعقبة بن عامر وأبو ذر، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن، وعمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة وغيرهم.
أما عن خيرات مصر وأرزاقها: فقد قال سعيد بن أبي هلال: مصر أم البلاد، وغوث العباد. وذكر أن مصر مصورة في كتب الأوائل، وسائر المدن مادة أيديها إليها تستطعمها. وأجمع أهل المعرفة: أن أهل الدنيا مضطرون إلى مصر يسافرون إليها، ويطلبون الرزق بها، وأهلها لا يطلبون الرزق في غيرها!! قال الجاحظ: إن أهلها يستغنون عن كل بلد حتى لو ضُرب بينها وبين بلاد الدنيا سور لغنيَ أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا. ( انظر كتاب : حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة؛ للإمام السيوطي)
وأما عن البساتين والأشجار التي على نهر النيل: ” فكانت البساتين بحافتي النيل من أوله إلى آخره ما بين أسوان إلى رشيد لا تنقطع، ولقد كانت المرأة تخرج حاسرة ولا تحتاج إلى خمار لكثرة الشجر، ولقد كانت المرأة تضع المِكتل على رأسها فيمتلئ مما يسقط به من الشجر “. ( فضائل مصر ومزايا أهلها – د / محمد موسى الشريف )
وأما عن ورع أهلها: فقد قال يحيى بن سعيد: جلت البلاد فما رأيت الورع ببلد من البلدان أعرفه إلا بالمدينة وبمصر.
وأما عن عسلها: فقد أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه فقال من أين هذا؟ فقيل له من قرية بمصر يقال لها بنها، فقال: ” اللهم بارك في بنها وفي عسلها ” فعسلها إلى يومنا هذا خير عسل مصر. ( فضائل مصر المحروسة – الكندي)
وأما ما يعجب من رونق منظرها، فذكر عن كعب الأحبار أنه قال: من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة، فلينظر إلى مصر إذا أخرفت وإذا أزهرت، وإذا اطردت أنهارها، وتدلت ثمارها، وفاض خيرها، وغنت طيرها. وعن عبد الله بن عمرو قال: من أراد أن ينظر إلى الفردوس فلينظر إلى أرض مصر حين تخضر زروعها، ويزهر ربيعها، وتكسى بالنوار أشجارها وتغنى أطيارها.
وقال بعض أهل العلم: ليس في الدنيا شجرة إلا وهي بمصر، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
وأما المطعومات والمشروبات: فيوجد بمصر في كل وقت من الزمان من المأكول والمأدوم والمشروب والمشموم وسائر البقول والخضر، جميع ذلك في الصيف والشتاء، لا ينقطع منه شيء لبرد ولا لحر، يوجد ذلك كله في الصيف ويوجد بعينه في الشتاء غير مفقود منه شيء واحد.
أما عن وصف أهلها: فقد قال عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما: أهل مصر أكرم العرب كلهم، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً، وأقربهم رحماً بالعرب عامة، وبقريش خاصة. وقال وهو يصفها لعمر بن الخطاب :” مصر درة ياقوته لو استخرج السلطان كنوزها لكفت الدنيا بأسرها”
وأما ذكر مصر وفضلها على غيرها من الأمصار وما خصت به وأوثرت به على غيرها، فروى أبو بصرة الغفاري قال: مصر خزانة الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها، قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }(يوسف/55).
أيها المسلمون: هذه الفضائل والخصائص جعلت لمصر مكانة عالية ومنزلة رفيعة؛ جعلت الشعراء يتغنون بجمالها وأرضها وخيراتها؛ ويصفون كل من لم يدخلها أو يمشي على أرضها أو لم يرها فما رأي الدنيا ولا الناس؛ وفي ذلك يقول صلاح الدين الصفدي :
من شاهد الأرض وأقطارها………………..والناس أنواعاً وأجناسا
ولا رأى مصر ولا أهلها………………….فما رأى الدنيا ولا الناسا
أحبتي في الله: قد يقول قائل: إن هذا الكلام عن مصر يخالف الواقع تماما ؛ ولا سيما ما نعيشه من أزمات وغلاء في الأسعار؟!!
أقول: المصادر والمراجع التي كتبت عن مصر كلها مراجع قديمة كتبت في العصور والقرون الأولى؛ ونحن نعلم أن أفضل العصور والقرون على الإطلاق عصر المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وعصور الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ؛ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ؛ ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ.” ( متفق عليه ). ” وإنما صار أول هذه الأمة خير القرون ؛ لأنهم آمنوا به حين كفر الناس ، وصدقوه حين كذبه الناس ، وعزروه ، ونصروه ، وآووه ، وواسوه بأموالهم وأنفسهم ، وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوهم في الإسلام ” ا.هـ [التمهيد ؛ وفيض القدير] .
إن مصر في وقتهم كانت في رغدٍ من العيش لأن تقوى الله لازمهم في كل شئ: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96) ؛ ونحن نعلم أن ما أصابنا فهو بذنوبنا! { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } ( هود: 101 )؛ { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41)؛ كيف لو أن السابقين الأولين أدركوا زماننا هذا؟!! ” عن محمد بن مهاجر عن الزبيدي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: رحم الله لبيداً إذ يقول:
ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم …………. وَبَقيتُ في خَلفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ
فقالت عائشة: كيف لو أدرك زماننا هذا؟! قال عروة: رحم الله عائشة لو أدركت زماننا هذا؟! قال الزهري: رحم الله عروة كيف لو أدرك زماننا هذا؟! قال الزبيدي: رحم الله الزهري كيف لو أدرك زماننا هذا؟! قال ابن مهاجر: رحم الله الزبيدي كيف لو أدرك زماننا هذا؟! قال ابن عوف: رحم الله ابن مهاجر كيف لو أدرك زماننا هذا؟! …………ثم ذكر بعدهم ما يقرب من عشرة رواه…قال المؤلف ( ابن عساكر ): رحم الله أبا الحسن كيف لو أدرك زماننا هذا؟!”( تاريخ دمشق – ابن عساكر )
قلت : – رحم الله هؤلاء جميعاً ومَن بعدهم ؛ فكيف لو أدركوا زماننا هذا وما يحدث فيه ؟!
أيها المسلمون: إن مصر هي مصر التى تكلم عنها القدامى؛ ولكن نحتاج إلى شعب كالقدامي؛ نحتاج إلى شعب يتقى الله في نفسه وعمله ووطنه وأهله وماله؛ نحتاج إلى رجال كأبي وعمر وعثمان وعلى؛ فالمشكلة مشكلة أفراد وأشخاص وليست مشكلة أرض مدحاً أو قدحاً !!
ويحضرني قصة جميلة: روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما عاد أحد المسلمين وهو مريض وقرأ عليه فاتحة الكتاب واضعًا يده على الجزء المريض في جسده، فبرئ الرجل بفضل الله، فلما استشهد عمر، ومرض الرجل مرة أخرى طلب ممن يعوده أن يقرأ عليه بفاتحة الكتاب كما صنع عمر، فلما قرأ عليه الراقي الفاتحة واضعًا يده على الجزء المريض في جسده، ثم قال له: كيف أنت؟ قال: له كما أنا .. قال الراقي: والله إن الفاتحة هي الفاتحة ولكن أين يد عمر؟. وأنا أقول لكم: مصر هي مصر ولكن أين عمر ؟!!
ورحم الله إمامنا الشافعي حيث يقول :
نعيب زماننا والعيب فينا……………….وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ……………ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ …………….ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا
يقول ذلك وهو في أفضل العصور ؛ فكيف لو رأى زماننا هذا ؟!!!
العنصر الثاني: مصر في القرآن والسنة
عباد الله: قبل الحديث عن ذكر مصر في القرآن والسنة، نرى هل لمصرَ ذكر في الكتب السابقة؟! فقد ذكرت مصر في الكتاب المقدس بعهديه –القديم والجديد-، ما يقارب ستمائة وثمانين مرة، ولم تذكر بلد بهذا العدد كما ذكرت مصر، أما عن مصر في القرآن فقد جاء ذكرها قرابة ثلاثين مرة منها تارة بالتصريح، وتارة بالتلميح؛ وأكتفي هنا بالمواضع الأربعة التي ذكرت فيها مصر صراحة.
الموضع الأول: قال تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87].
فمصر هي البلد الوحيد الذي أوصى الله أنبيائه-عليهم السلام- أن يذهبوا إليها، بنص الآية الكريمة، فالله – عز وجل- أمر موسى وأخاه هارون، أن يتخذوا بيوتاً لهم، ولقومهم بمصر.
الموضع الثاني: قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } [يوسف:21].
الموضع الثالث: قال تعالى: { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99].
الموضع الرابع: قال تعالى: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].
وهناك مواضع أخرى كثيرة ذكرت فيها أرض مصر تلميحاً لا تصريحاً لا يتسع المجال لذكرها .
أيها المسلمون: وبعد أن رأينا ذكر مصر في القرآن الكريم، تأتي السنة النبوية، حتى تكتمل المنزلة ويعلو القدر على لسان الحبيب -صلى الله عليه وسلم- فقد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث امتدح فيها مصر ووصي بها وبأهلها، مقتصرين على الأحاديث الصحيحة، ومنها: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا؛أَوْ قَالَ ذِمَّةً وَصِهْرًا. “( مسلم ). قال النووي: ” الذمة: الحرمة والحق، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر، فلكون مارية أم إبراهيم منهم.” أ,هـ ( شرح النووي على مسلم) . فمصر هي البلد الوحيد الذي أوصى النبي بها، وأمر بالإحسان إلى أهلها.
وعن أم سلمة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى عِنْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ: «اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عُـدَّةً، وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ»( مجمع الزوائد للهيثمي وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح )، فلم يُوصِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بنصارى أي بلد، كما وصَّى بنصارى مصر.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ”.( مسلم). قال الإمام النووي – رحمه الله -:” وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض : أحدهما : أن الإيمان عم بلادها ، أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة . والثاني : وهو الأصح أنها على ظاهرها ، وأن لها مادة من الجنة . ” (شرح النووي).
أيها المسلمون: إن ذكر مصر في القرآن والسنة دليل على أهمية هذه البلد ومكانتها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإذا كان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قدما لنا الوصية بمصر وأهلها خيراً ؛ فعلينا أن نمتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم!!
يقول الكندي في كتابه فضائل مصر المحروسة: ” قد فضل الله مصر وشهد لها في كتابه بالكرم وعظم المنزلة؛ وذكرها باسمها وخصها دون غيرها، وكرر ذكرها، وأبان فضلها في آيات من القرآن العظيم.”
ولا شك أن الله إذا ذكر شيئا وعظمه فإن تعظيمه وتشريفه وتكريمه من تعظيم وتكريم الله تعالى؛ ” قال قتادة: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذِكْرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فَعَظِّموا ما عظم الله، فإنما تُعَظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.” ( تفسير ابن كثير )
العنصر الثالث: مصر بلد الأمن والأمان
عباد الله: إن من يطالع القرآن الكريم يجد أن الله وصف مصر ووصف حال من دخلها بالأمن والأمان؛ قال تعالى: { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99]. وهنا لمسة بيانية من لمسات القرآن الكريم؛ حيث جاءت كلمة “آمنين” في موضعين اثنين لا ثالث لهما في القرآن، حيث الموضع الأول وهو المذكور آنفاً، والموضع الثاني عند الحديث عن المسجد الحرام في أواخر سورة الفتح قال تعالى:{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ }[الفتح:27].وفيه دلالة على أن الله خص مصر بما خص به البلد الحرام، وهو الأمن والأمان، ولم تأت هذه الكلمة في غير هذين الموضعين في القرآن الكريم.
ولأهمية مصر وجبالها أقسم الله بجبل الطور الذي كلم عليه نبيه موسى – عليه السلام – وذلك في موضعين:
الموضع الأول: في مطلع سورة الطور وسميت السورة باسمه، { وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُور}|( الطور 1 ؛ 2 )
الموضع الثاني: في مطلع سورة التين، قال تعالى:{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (التين 1 – 3)
وذكرَ الإمامُ ابنُ كثير في تفسيره قولَ بعض الأئمة: ” هذه محالٌ ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبرى، فالأول : محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى بن مريم، والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى، والثالث: مكة، وهو البلد . والأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدًا”. فالله جمع بين الأماكن الثلاث في قسم واحد؛ وإذا أقسم الله بشئ فلا يقسم إلا بعظيم، وهذا يدل على منزلة الثلاثة التي أقسم بها ؛ ومنها جبل الطور بمصر !!
من هذا كله يتضح لنا أن مصر بلد الأمن والأمان وستظل إلى يوم الدين !! فقل للأخيار المكرمين، الوافدين إليها مغرمين، القادمين عليها مسلمين، ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين.!!
أحبتي في الله: إنّ نعمة الأمن أعظم من نعمة الرزق؛ ولذلك قُدِّمت عليها في الآية الكريمة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }[البقرة: 126]. فبدأ بالأمن قبل الرزق لسببين:
الأول: لأن استتباب الأمن سبب للرزق، فإذا شاع الأمن واستتبَّ ضرب الناس في الأرض، وهذا مما يدر عليهم رزق ربهم ويفتح أبوابه، ولا يكون ذلك إذا فُقد الأمن.
الثاني: ولأنه لا يطيب طعام ولا يُنتفع بنعمة رزق إذا فقد الأمن؛ فمَن مِن الناس أحاط به الخوف من كل مكان، وتبدد الأمن من حياته ثم وجد لذة بمشروب أو مطعوم؟! “وقد سئل بعض الحكماء فقيل له ما النعيم ؟! قال: الغِنَى فإنى رأيت الفقر لا عيش له، قيل: زدنا، قال: الأمن فإنى رأيت الخائف لا عيش له؛ قيل: زدنا؛ قال: العافية فإنى رأيت المريض لا عيش له، قيل: زدنا؛ قال: الشباب فإنى رأيت الهرم لا عيش له.” ( إحياء علوم الدين) .
ولأهمية الأمن ومكانته في الإسلام أعلاه العلماء منزلة أعظم من نعمة الصحة. قال الرازي رحمه الله: “سئل بعض العلماء: الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل؛ ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجَسَد”(تفسير الرازي).
أحبتي في الله: إن الأمن والاستقرار إذا عَمَّ البلادَ، وألقى بظلِّه على الناس، أَمِنَ الناس على دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم ومحارمهم، ولو كتَب الله الأمن على أهل بلد من البلاد، سارَ الناس ليلاً ونهارًا لا يخشَوْن إلا الله؛ وفي رِحاب الأمن وظلِّه تعمُّ الطمأنينة النُّفوس، ويسودُها الهُدُوء، وتعمُّها السعادة؛ ويجمع صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» (الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني في الصحيحة)
أيها المسلمون: إنَّ مكانة الأمن كبيرة، فالأمن تُحقَن فيه الدِّماء، وتصَان الأموال والأعراض، وتَنام فيه العيون، وتطمئنُّ المضاجع، ويتنعَّم به الكبير والصغيرُ والإنسان والحيوان، فالأمن مِن نِعَمِ الله العُظمَى وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلاَّ به، ولا يطيب العيش إلا باستِتْبابِه!!
إن الأمنَ لو سُلب من بلد ما، فتصوَّر كيف يكون حالُ أهله؟! لو خرَج ابنك إلى الشارع لا تأمن عليه، لو ذهبتْ بنتك إلى المدرسة خشيت ألاَّ ترجع إليك، لو ذهبتَ أنت إلى العمل جلست على مقعَد العمل قَلِقًا على نسائك ومَحارِمك في المنزل، إضافةً إلى سرقات البيوت وسرقة السيارات؛ وقُطَّاع الطُّرُق في السفر وغيرها كثير، كم من البلاد الآن عاقَبهُم الله – جلَّ وعلا – بنَزْعِ الأمن من بلادهم!! فعاشَ أهلها في خوفٍ وذُعر، في قلقٍ واضطراب، ليل نهار، لا يهنَؤُون بطعام، ولا يتلذَّذون بشراب، ولا يرتاحون بمنامٍ، كلٌّ ينتظر حَتْفَه بين لحظةٍ وأخرى، عَمَّ بلادَهم الفوضى، وانتشر الإجرامُ، لا ضبْط ولا أمن، فنسأل الله أنْ يرحمنا برحمته، وألاَّ يوصلنا إلى هذه النهاية!!
العنصر الرابع: واجبنا نحو مصر
عباد الله: إن واجبنا نحو مصر أن نحافظ عليها وعلى مؤسساتها وخيراتها؛ ومن الخيانة العظمي أن يخون مواطن وطنه ويتآمر ضده من أجل منفعة مادية أو مصلحة شخصية!! ومن فعل مثل ذلك كان بعيداً عن الدين بعيداً عن الله، لأن المؤمن الحقيقي من أمنه الناس علي دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
أحبتي في الله: يجب على كل أبناء الوطن أن يكونوا عيوناً ساهرة لحماية أمن الوطن؛ وأن يتضامنوا في درء أي خطر يتهددهم؛ وأن يتكاتفوا جميعاً عن بكرة أبيهم وبلا استثناء علي ردع كل من تسوّل له نفسه أن يجترئ علي الوطن وأن يسعى بذمتهم أدناهم، وأن يكونوا يداً علي من سواهم، بغض النظر عن عقائدهم فيجب أن يتعاونوا جميعاً مسلمين وغير مسلمين!!
أيها المسلمون: علينا أن نحفظ عقول الشباب من الأفكار المتطرفة والمفاهيم العفنة التي تشبعت بها أفكارهم فصاروا يفسدون في الأرض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ وإن مما يذهب أمن الناس انتشار المفاهيم الخاطئة حيال نصوص القرآن والسنة، وعدم فهمهما بفهم السلف الصالح، وهل كُفِّر الناس وأريقت الدماء وقُتل الأبرياء وفُجِّرت البقاع إلا بهذه المفاهيم المنكوسة؟!!
أحبتى في الله: إن مصرنا الحبيبة مستهدفة من الداخل والخارج؛ والأعداء يتربصون بها الدوائر من كل جانب؛ وهذا أمر ليس علينا بجديد؛ بل هو من قديم الزمان؛ فقد خطب عمرو بن العاص – رضي الله عنه- لأهل مصر فقال في خطبته: ” واعلموا أنكم فى رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حوالكم، وتشوّق قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.” (فتوح مصر والمغرب – عبدالرحمن بن عبدالحكم المصري المتوفى سنة 255هـ ).
إن مصرنا الغالية محفوظة بحفظ الله كما جاء في القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة؛ بل وفي الكتب والشرائع قبلنا؛” فقد ذكر أهل العلم أنه مكتوب في التوراة: بلد مصر خزانة الله، فمن أرادها بسوء قصمه الله.
وقال خالد بن يزيد: كان كعب الأحبار يقول: لولا رغبتي في الشام لسكنت مصر؛ فقيل: ولم ذلك يا أبا إسحاق؟ قال: إني لأحب مصر وأهلها؛ لأنها بلدة معافاة من الفتن، وأهلها أهل عافية، فهم بذلك يعافون، ومن أرادها بسوء كبه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه. وروى عن شفي الأصبحي، أنه قال: مصر بلدة معافاة من الفتن لا يريدهم أحد بسوء إلا صرعه الله، ولا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله.” ( انظر كتاب: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة؛ للسيوطي)
أيها المسلمون: مصر العظيمة تستحق منا أن نقف بجوارها تخليداً لاسمها وذكرها في كتاب ربنا عز وجل الذي نتعبد بتلاوته ألي أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ واستمراراً لمسيرة العظماء قبلنا .. ولنحافظ عليها لنسلمها لأبنائنا ونوصيهم بها خير وصية :” مصر غالية فحافظوا عليها ..مصر كنانة الله في أرضه. فاتقوا الله في مصر” .
نسأل الله أن يحفظ مصرنا وأهلها وشعبها من كل مكروه وسوء؛ اللهم من أراد بمصرنا خيراً فوفقه إلى كل خير؛ ومن أردا مصرنا بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره !!
الدعاء،،،، وأقم الصلاة،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي